علي أحمد، مارك أيوب | الأحد، ١٢ أيلول/ سبتمبر٢٠٢١ ضمن سلسلة مقالات الرأي “لبنان ينهار.. ماذا بعد؟” ماذا بعد رفع الدعم عن المشتقّات النفطيّة؟ كثُرَ التركيز على هذه الإشكاليّة منذ أكثر من سنة في لبنان، سواء من المسؤولين عن السياسات النقديّة والاجتماعيّة أو من الخبراء والمتخصّصين. مع ذلك، لا يزال الحديث الطاغي لمواجهة تداعيات رفع الدعم عن المحروقات، والناتج عن إفلاس القطاع المصرفي وشحّ الدولارات المتوافرة لاستيرادها، محصورًا بالكوارث الإنسانيّة والاجتماعيّة التي سوف تطال الشريحة الأكبر من المُقيمين، في مُقابل المخاطرة بتبديد ما تبقّى من أموال المودعين. ما يوحي أن قضية رفع الدعم بشكلٍ عام تدور حول صراع مصالح بين طرفَين: المودعين وغير المودعين، وهو ما يحوّل هذه القضيّة العامّة إلى صراع فئوي يحيّد النقاش عن مسؤوليّة السلطة السياسيّة المولجة بإدارة شؤون المُجتمع وحمايته والنهوض بالاقتصاد، والمتنصّلة من مسؤوليّاتها على الرغم من مرور أكثر من عام ونصف العام على بدء الانهيار ضمن سلسلة مقالات الرأي “لبنان ينهار.. ماذا بعد؟” شهدت بداية العام ٢٠٢١ تراجعًا مُطردًا في القدرة الإنتاجيّة لمؤسّسة كهرباء لبنان، وصل إلى ذروته خلال أشهر الصيف حين سجّلت المؤسّسة انعدامًا شبه كلّي في إنتاج الطاقة الذي لم يتجاوز في بعض الأحيان ساعتين في اليوم، بحيث حلّت الظلمة على معظم المناطق اللّبنانية نتيجة هذا الواقع المُذري الذي يعود إلى أسباب عديدة أبرزها: تأخّر مصرف لبنان في فتح اعتمادات استيراد المحروقات نتيجة التراجع المُستمرّ في العملات الأجنبيّة الموجودة لديه، ما أدّى إلى نقص هذه المادة في الأسواق وبالتالي فرض برنامج تقنين نشاط عمليّات التهريب والتخزين بحثًا عن أرباح سريعة على هامش الأزمة واستغلال حاجات الناس إلى المواد الأساسيّة بما فيها المحروقات- توقف أعمال الصيانة في معامل الطاقة بسبب تراجع القدرة على استيراد قطع الغيار- زيادة الضغط على الشبكة غير المستقرة بالأساس في ذروة الطلب- وغيرها من المشكلات المتراكمة في كيفية التعامل مع قطاع الطاقة منذ عقود، لعلّ أكثرها فظاعة هو القرار الحكومي الذي اتُخذ في العام ١٩٩٤ وقضى بتثبيت تعرفة الكهرباء، أي عندما كان سعر برميل النفط لا يتجاوز ٣٠ دولارًا ووصل في سنوات لاحقة إلى أكثر من ١٠٠ دولار، ما دفع مؤسّسة كهرباء لبنان إلى بيع الطاقة المُنتجة لديها بأقلّ من كلفتها الفعليّة، وبالتالي مراكمة عجوزات مُستمرّة ودائمة في ميزانيّتها، كان يعوّض جزءًا منها بتحويل الأموال إليها من الخزينة العامّة لشراء الفيول وتشغيل معاملها، بالتوازي مع فرض تقنين متقطّع عُوِّض باللجوء إلى المولّدات الخاصّة “الكهرباء تستحوذ على أكثر من ثلث التكاليف التشغيليّة لمؤسّسات المياه الأربع المولجة بإدارة الموارد المائيّة في لبنان” أظهرت الدراسة أن الكهرباء تستحوذ على أكثر من ثلث التكاليف التشغيليّة لمؤسّسات المياه الأربع المولجة بإدارة الموارد المائيّة في لبنان. في الواقع، تعجز هذه المؤسّسات عن تغطية نفقاتها التشغيليّة بسبب الرسوم المُنخفضة المفروضة على الخدمات التي توفّرها، في حين أدّى الانقطاع شبه المستمرّ في التيّار الكهربائي في العديد من المناطق إلى إجبار بعض مؤسّسات المياه على الاعتماد على المولّدات الخاصّة العاملة على المازوت لتزويد منشآتها بالكهرباء. إلّا أن هذا الخيار فشل في حلّ المشكلة أيضًا، لأن لبنان يواجه أزمة محروقات تحدّ من قدرة الحصول على المازوت لتشغيل مولّدات الطاقة، بحيث دفع هذا الوضع بمؤسّسات المياه إلى إبلاغ المستخدمين خلال الأسابيع الماضية بعدم قدرتها على توصيل المياه إليهم تزداد مشكلة قطاع المياه تعقيدًا بسبب انهيار قيمة اللّيرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، لأن مؤسّسات المياه تجبي عائداتها من الاشتراكات المقوّمة بالليرة، إسوة بأي دعم قد تحصل عليه من الحكومة، وهو ما أثّر سلبًا على قدرتها على صيانة منشآتها نتيجة عجزها عن شراء قطع الغيار والمواد الاستهلاكيّة لتشغيل منشآت معالجة المياه والتعامل مع مختبرات مراقبة جودتها، وقد انعكس ذلك على مرافق معالجة الصرف الصحّي الموضوعة في الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، فضّل المقاولون الحدّ من خسائرهم ودفع الغرامات (باللّيرة اللّبنانية) المُترتّبة عن فسخ عقودهم مع مؤسّسات المياه بدلًا من الاستمرار بتقاضي بدلات خدماتهم بالليرة، وهو ما حدّ من قدرة مؤسّسات المياه على الحفاظ على شبكاتها و/ أو تنفيذ مشاريع إعادة التأهيل في بعض المرافق “قضية رفع الدعم بشكلٍ عام توحي بأن الصراع هو صراع مصالح بين طرفَين: المودعين وغير المودعين“ من الذي دُعِم فعليًا؟ من هنا، ما هي جدوى الاستمرار بدعم أسعار إنتاج الطاقة الباهظة نسبة إلى معدّل التعرفة الحاليّة الذي لا يتجاوز سنتًا واحدًا للكيلواط ساعة في ظلّ عدم توفر الكهرباء؟ على المدى العقود الماضية، صُوِّر الدعم على أنه جزءٌ من سياسة اجتماعيّة وشبكة أمان توفّرها الحكومة للمُقيمين، لكن أرقام الإنفاق العام تبيّن أن ما دفعته الحكومات المتعاقبة ثمنًا لشراء الفيول وتشغيل معامل الكهرباء يوازي تقريبًا ما تلقّته الخزينة العامّة من واردات الاتصالات التي دفعها المُشتركون في هذه الخدمة. وبالتالي ما يُعتقد أنه مُنِح للناس كدعم لأسعار لكهرباء أُخِذ منهم بالاتصالات التي يُعدُّ ثمنها من الأغلى في العالم أمّا ما عُدَّ دعمًا للإنتاج وتحفيزًا للاستثمار من خلال توفير أسعار طاقة تنافسيّة، لم يكن فعليًا مصحوبًا بأي خطّة لتطوير قطاعات وتقنيّات إنتاجيّة تعتمد على الطاقة الكثيفة وتساهم في نهضة الاقتصاد، ولا ببدائل واضحة تُستخدم من أجل التحوّل نحو كفاءة أكبر في استخدام الطاقة، بدليل افتقار لبنان لأي قاعدة إنتاجيّة وبنية اقتصاديّة كفوءة على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب. بمعنى آخر، طوال العقود الماضية، استخدمت أشكال الدعم العديدة، بما فيها دعم أسعار الكهرباء، لتعزيز أرباح المصالح الخاصّة المُستفيدة من الاقتصاد السياسي لما بعد الحرب، بما فيها مصالح مستوردي المحروقات والمقاولين الموزّعين وفقًا للتحاصص الطائفي، في حين لم يكن الدَّيْن العام سوى الآلية الأسهل لنقل الموارد من كلّ المجتمع إلى قلّة فاقمت ثرواتها، على حساب تحويل العديد من المؤسّسات العامّة، وأبرزها مؤسّسة كهرباء لبنان إلى إحدى أسوأ المؤسّسات إنتاجيّة في المنطقة والعالم رفع الدعم تحت وطأة الانهيار لطالما رُبط توقيت رفع الدعم عن الكهرباء، أي رفع التعرفة تدرّجيًا، بتحسّن الخدمة وزيادة ساعات التغذية، وهذا ما عبّرت عنه خطّتيْ الكهرباء في العامين ٢٠١٠ و٢٠١٩. إلّا أن الانهيار الحاصل فكّ أواصل هذا الرابط، ليأتي رفع الدعم بحكم الأمر الواقع، نتيجة الإفلاس وشحّ الدولارات، لا ربطًا بتحسن التغذية. وبالتالي ما كان يمكن أن يكون وقعه أخفّ على كاهل المُقيمين لو رُبِط بإصلاح فعلي، سوف تكون آثاره كارثيّة في ظلّ الانهيار القائم مع ذلك، ما زالت سُبل الإصلاح مُمكنة، بحيث لن يؤدّي رفع التعرفة حاليًا بعد انخفاض الإنتاج إلى إلقاء الأعباء الاقتصاديّة نفسها أو التسبّب بالتضخّم نفسه الذي كان متوقّعًا قبل الأزمة، لا بل أن التعرفة المُحدّثة، حتّى بعد زيادة الإنتاج في مؤسّسة كهرباء لبنان، سوف تكون أقل بكثيرٍ من أسعار الطاقة المُنتجة في مولّدات الأحياء، التي يُقدّر أن يصل سعرها إلى نحو ٧-٨ آلاف ليرة لكلّ كيلواط ساعة بعد رفع الدعم كلّيًا عن المازوت. بالنتيجة، سوف يؤدي رفع التعرفة إلى انخفاض التحويلات المالية المباشرة من الخزينة إلى مؤسّسة كهرباء لبنان، وبالتالي سوف يُحرِّر مبالغ يمكن استخدامها لدعم الصحّة والتعليم وشبكة الأمان الاجتماعي ما عُدَّ دعمًا للإنتاج وتحفيزًا للاستثمار من خلال توفير أسعار طاقة تنافسية، لم يكن فعليًا مصحوبًا بأي خطّة لتطوير قطاعات وتقنيات إنتاجية تعتمد على الطاقة الكثيفة وتساهم في نهضة الاقتصاد حماية الأكثر فقرًا والأقلّ استهلاكًا من هنا، لم يعد السؤال الجوهري مُرتبطًا بتوقيت رفع الدّعم عن الكهرباء، بل بكيفيّة تطبيقه وآليّات حماية الفئات الاجتماعيّة الأكثر تأثّرًا بهذا الإجراء لا توجد أرقام دقيقة عن كيفيّة توزّع استهلاك الكهرباء في لبنان، لكن يُقدّر أن يكون أكثر من نصف الاستهلاك منزليًا. وهو ما يحتّم توزيع أكلاف الكهرباء بشكلٍ عادل، بحيث تتحمّل الطبقات الأكثر استهلاكًا العبء الأكبر من رفع الدعم في الواقع، تشير أرقام البنك الدولي للعام ٢٠١٦ أن ٦٢٪ من عائدات مؤسّسة كهرباء لبنان تأتي من الشرائح التي يزيد استهلاكها عن ٥٠٠ ميغاواط ساعة في السنة، فيما تأتي النسبة الباقية من شرائح المستخدمين الأقل استهلاكًا للطاقة ويتوزّعون كالآتي: ٨٪ ممن لا يزيد استهلاكهم عن ١٠٠ ميغاواط ساعة سنويًا، ١٦٪ ممن يراوح استهلاكهم بين ١٠١ و٣٠٠ ميغاواط ساعة، ٧٪ ممن يستهلكون بين ٣٠١ و٤٠٠ ميغاواط ساعة، و٧٪ من الشريحة التي تستهلك بين ٤٠١ و٥٠٠ ميغاواط ساعة في السنة تبيّن هذه الأرقام أن دعم الطبقات الأكثر فقرًا، إذا ما احتسبنا الشريحتين الأولتين من الاستهلاك، لا تتجاوز قيمته ربع (٢٤٪) مداخيل مؤسّسة كهرباء لبنان. في هذا السياق، يمكن اللجوء إلى آليّتين لحماية الشرائح الأكثر فقرًا أو تأثّرًا برفع الدّعم منح تعويضات نقدية مباشرة عن ارتفاع الأسعار، إسوة بالنموذج الذي اتبع في إيران في العام ٢٠١٠ وفي الأردن في العام ٢٠١٢ وإضافتها إلى الحصص النقدية المفترض توزيعها عبر برنامج البطاقة التمويليّة إعتماد نظام دعم هادف ومتفاوت بحيث تحصل الأسر التي لا يتعدى استهلاكها سقفًا معينًا على كهرباء مدعومة أو حتى مجانيّة بالمقابل،يرفع الدعم كليًا عن باقي شرائح المُستهلكين قد تكون الآلية الأولى أسرع وأكثر فاعلية لأنها لا تحتاج إلى جهود مؤسسة كهرباء لبنان، لكن قد يشوبها بعض التفاوتات وانعدام في المساواة. أمّا الآليّة الثانية فتتطلّب جهودًا إداريّة وماليّة، من دون ضمان أن تؤدّي الأهداف المرجوّة منها، كَونها تستوجب تحديد معدّلات الاستهلاك التي تحتاج إليها الأسر، ولا سيّما شريحة الاستهلاك الأدنى التي تقدّر بنحو ٨٪ من مجمل المشتركين في الخدمة، وكذلك وجود عدّادات ذكيّة لضبط الاستهلاك ومنع التلاعب يبقى التحدي على المدى المتوسّط في كيفيّة خفض التأثيرات السلبية الناجمة عن رفع الدعم على النشاطات الاقتصادية، وهو ما يتطلب إعداد بيانات دقيقة لتوزّع الاستهلاك بين المؤسسات الاقتصاديّة المختلفة، تجاريّة وصناعيّة، وتحديد الأولويّات وفقًا لأهمّيتها هذه النشاطات ومساهمتها في تعزيز الأمن الاجتماعي والتصدير ما زالت سُبل الإصلاح مُمكنة، بحيث لن يؤدّي رفع التعرفة حاليًا بعد انخفاض الإنتاج إلى إلقاء الأعباء الاقتصاديّة نفسها أو التسبّب بالتضخّم نفسه الذي كان متوقّعًا قبل الأزمة ما العمل؟ :على المدى القصير تحديد تعرفة جديدة للكهرباء المُنتجة في مؤسّسة كهرباء لبنان بناءً على مقاربة علميّة تعكس كلفة الإنتاج الفعّالة والطويلة الأجل. أظهرت دراسة صادرة في العام ٢٠٢٠ أن هذه الكلفة تبلغ نحو ١٦ سنتاً لكلّ كيلواط ساعة، أو ٣٬٢٠٠ ليرة على سعر ٢٠ ألف ليرة للدولار، وهو ما يقلّ بنحو مرّتين ونصف المرّة عن تعرفة المولّد في حال رفع الدعم كلّياً عن المازوت (٨ آلاف ليرة لكلّ كيلواط ساعة). ويمكن النظر بالتعرفة مستقبلًا وتعديلها بناءً على رأي الهيئة المُنظّمة لقطاع الكهرباء في حال تأسيسها بموجب القانون ٤٦٢/ ٢٠٠٢، ووفقًا للوضع المالي لمؤسّسة كهرباء لبنان تشديد الرقابة على المولدات الخاصة للالتزام بالتسعيرة الشهرية وضبط هوامش الأرباح دراسة القطاعات الحيويّة (صناعة، وزراعة، وتجارة) التي يجب أن تستفيد من تعرفة مدعومة لضمان تنافسيّة سلعها تحديث قاعدة بيانات توزّع الاستهلاك والمشتركين تسريع عمليّة جباية المتأخّرات لصالح مؤسّسة كهرباء لبنان على المديين المتوسط والبعيد إعادة النظر بالرابط بين تعرفة الكهرباء والنشاطات الاقتصاديّة المُنتجة تركيب العدّادات الذكيّة تمهيدًا لاعتماد تعرفة مُختلفة بحسب أوقات النهار، وتشجيع ترشيد الاستهلاك لا سيّما في ساعات الذروة إنّ الوفر المتوقّع من تعديل تعرفة الكهرباء يحب أن يترافق مع رؤية للنهوض بالقطاع، ووضع خطّة طويلة الأمد للمزيج الطاقوي للبلاد، عبر زيادة الانتاج الى حدود ٣٫٠٠٠ ميغاواط، وهي حاجة لبنان القصوى بحسب دراسة حديثة للبنك الدّولي، من خلال الاستثمار في الغاز الطبيعي، والتخفيف من الخسائر التقنيّة وغير التقنيّة بالتوازي مع التحوّل نحو الطاقات المُتجدّدة التي تخفّف من اعتمادنا على مصادر الوقود الأحفوري المستوردة الأكثر كلفة والملوِّثة في آنٍ معًا. علي أحمد، زميل في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت مارك أيوب، باحث في مجال الطاقة، معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت بينما يواجه لبنان سيناريو الانهيار الكامل بسبب أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة، أطلق معهد عصام فارس سلسلة مقالات رأي تتناول الانعكاسات الجذريّة للأزمة على قطاعات الدولة وظروف معيشة الناس. ستغطي السلسلة عدّة جوانب للأزمة، تتعلّق بالتعليم والطاقة والاقتصاد والصحّة العامّة والقطاع الخاص، بالإضافة إلى حماية حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وغيرها إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كتّابها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت Comments are closed.
|
Archives
December 2024
Categories |