مارك أيّوب | الأربعاء، ١٧ شباط/ فبراير ٢٠٢١ ليس مرفأ بيروت الضحيّة الوحيدة للانفجار المدمّر في ٤ آب/أغسطس من العام المنصرم والانهيار المؤسّساتي الذي تبعه، بل تُعاني قطاعات حيويّة عدّة مثل الاتصالات والنفايات الصلبة وخدمات المياه، وغيرها منه أيضًا، وعلى رأسها قطاع الكهرباء. في حين أن الإنتاج الوطني قد انخفض بالفعل بشكلٍ كبير (حوالي ١٩٪ تدريجيًّا خلال الأشهر الـ ١١ الأولى من العام ٢٠٢٠)، فإن خطر مواجهة ساعات أطول من التقنين الكهربائي في الأشهر المُقبلة لم يعد مستبعدًا بعد الآن. وذلك للأسباب التالية أوّلًأ، التوجّهات في موضوع تأمين الفيول لا تزال غير واضحة. ويشكّل التخبّط الرسمي، حتّى الآن، عقبة رئيسيّة في ما يتعلّق بإطلاق مُناقصة شفاّفة لتأمين الفيول أويل (Fuel oil) لمعامل الكهرباء. كما يبقى التحدّي الأساسي، في حال المضي قدمًا بالمناقصة، يكمن في استقطاب الشركات العالميّة التي تتطلّب ضمانات ماليّة مُسبقة، وتأمين الأموال المطلوبة (بالدولار الأميركي) من قبل مصرف لبنان، في ظلّ الشحّ المُتزايد بالعملات الأجنبيّة والدّفع المستمر نحو ترشيد الدعم على المحروقات. ثانيًا، دمّر انفجار ٤ آب/أغسطس مبنى مؤسّسة كهرباء لبنان المركزي في منطقة مار مخايل، وقضى على مركز التحكّم بالشبكة عن بُعد (National Control Center)، كما على محطة التوزيع الرئيسيّة المجاورة للمؤسّسة، إذ عاد الموظّفون إلى طريقة التحكّم التقليديّة عبر وسائل الاتصال العاديّة، ممّا يعيق عمليّة إصلاح الأعطال ويطيل أمدّها. إضافةً إلى ذلك، اضطر الموظفون للعمل في فروع المؤسّسة في المناطق بسبب تحطّم المبنى والمكاتب، فيما يداوم آخرون في مستوعباتٍ حديديّة مؤقتة في باحة جنب المبنى المركزي، متسائلين عن مصيرهم وعن أعمال إعادة الاعمار التي لم تبدأ بعد “يبقى التحدي الأساسي، في حال المضي قدمًا بالمناقصة، يكمن في استقطاب الشركات العالمية التي تتطلب ضمانات مالية مسبقة، وتأمين الأموال المطلوبة (بالدولار الأمريكي) من قبل مصرف لبنان، في ظلّ الشح المتزايد بالعملات الأجنبية والدفع المستمر نوع ترشيد الدعم على المحروقات ثالثًا، كانت تعاني مؤسسة كهرباء لبنان أصلًا من وضعٍ مالي هشّ، فاقمته الأزمة الاقتصاديّة الحادّة التي تمرّ بها البلاد وظهر ذلك في شحّ الأموال اللّازمة (الدولارات) التي تحتاجها المؤسّسة لمورّدي المعدّات وقطع الغيار لزوم أعمال الصيانة. من جهةٍ أخرى، تراكمت المدفوعات المستحقّة لبواخر إنتاج الكهرباء (كارادينيز)، ومُقاولي تشغيل وصيانة معامل الانتاج، وشركات مقدّمي خدمات التوزيع (DSPs)، والتي بلغ مجموعها حتى نهاية العام ٢٠٢٠ حوالي ٣٠٠-٣٢٠ مليون دولار وهي بدأت بالتبليغ عن إمكانيّة إنهاء عمليّاتها جرّاء عدم توفّر الأموال رابعًا، أصبحت المخاوف من الدخول في ساعات طويلة من انقطاع التيار الكهربائي جدّية، وقد تمّ بالفعل إطلاق الإنذار الأوّل في الأيام الأخيرة مع شركة Primesouth، المولجة أعمال الصيانة والتشغيل لمحطتي توليد الكهرباء في دير عمار والزهراني (تنتجان حوالي ٤٠٪ من إجمالي القدرة الإنتاجيّة)، على إثر إعلانها عدم قدرتها على متابعة أعمالها ما لم تسدّد المستحقات المتراكمة. وعقد رئيس حكومة تصريف الأعمال اجتماعًا طارئًا بهذا الخصوص لإقناع الشركة بالعزوف عن قرارها وإعطاء المزيد من الوقت. من جهة أخرى، ينتهي عقد بواخر الكهرباء التركية في أيلول ٢٠٢١، وهي التي استقدمت في العام ٢٠١٣ كحلٍّ مؤقتٍ إلى حين إنشاء المعامل، وبقيت حتى يومنا هذا لتنتج حوالي ٢٠٪ من الإنتاج الوطني ومن المتوقع أن تزداد هذه الأزمة سوءًا في حال تمّ تعويم سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل اللّيرة اللّبنانية، ولن يقتصر ذلك على انخفاض قدرة توليد الطاقة فحسب، بل سيؤدّي أيضًا إلى تدهور كبير في شبكة الكهرباء وزيادة الخسائر التقنية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الجباية تأثّرت منذ بدء الأزمة الماليّة ومن ثمّ تداعيات جائحة كورونا، وقُدّر التراجع بحوالي ٢٠٪ عن المعدّلات الطبيعيّة من المتوقّع أن تزداد هذه الأزمة سوءًا في حال تمّ تعويم سعر صرف الدولار الأمريكي مُقابل اللّيرة اللّبنانية، ولن تتسبّب بانخفاض قدرة توليد الطاقة فحسب، بل ستؤدّي أيضًا إلى تدهور كبير في شبكة الكهرباء وزيادة الخسائر التقنية خامسًا، يعود جزء كبير من هذا النزف المالي المتواصل إلى تعرفة مبيع الكهرباء، التي لا تزال مثبّتة منذ العام ١٩٩٤ لما يقارب ٩٫٣ سنتًا للكيلوواط ساعة وتُدفع على أساس السعر الرسمي، ممّا يفاقم العجز المالي ويحدّ من فعاليّة أي حلّ تقني لإصلاح القطاع. من جهة أخرى، إنّ أي رفع للتعرفة في ظلّ الأزمة الحاليّة سيكون له تداعيات اجتماعيّة حادّة ويجب أن يُدرس بتأنٍّ. لذا، لا بدّ من أن يُقارب أي طرحٍ عملي لموضوع التعرفة أمرَين أساسيين: الأوّل، إمكانية إبقاء الدّعم للمُستهلكين الصغار ورفعه عن المُستهلكين الكبار؛ والثاني، مُعالجة موضوع المتأخرات في الجباية قبل التطرّق للتعرفة، فجميع الفواتير الصادرة اليوم تعود لأكثر من سنة بسبب الأزمات المُتتالية سادسًا، أمّا على صعيد الإنتاج، فيمكن الجزم أن كافّة مشاريع الإنتاج التي كان يعمل على وضعها على سكّة التنفيذ من ضمن الخطط المتلاحقة أصبحت غير قابلة للتنفيذ في ظلّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة وعدم توفّر البيئة الاستثماريّة اللّازمة للشركات، التي تنتظر الضوء الأخضر من حكومات بلادها قبل بدء أي مشروع في لبنان. لذا، لا يمكن تصوّر أي حلّ قصير المدى ما لم تتم معالجة الأسباب الجذريّة للأزمة بناءً على جميع هذه المُعطيات، يظهر جليّاً أن قطاع الكهرباء مهدّد بانهيار: تدميرٌ للمؤسّسات وتدهورٌ في الخدمة وضياعٌ في المسؤوليات وقلقٌ في شأن مُستقبل الموظفين وفي إمكانيّة تأمين الكهرباء للمواطنين لا بد من إطلاق حوار وطني حول قطاع الكهرباء يصدر عنه قرار توافقيّ تاريخي بإبعاد السياسة عن القرارات المُرتبطة بالطاقة، وبفتح المجال أمام الشركات العالميّة للمنافسة تقنيًّا وماليًّا كما في البلدان الأخرى يُعتبر الحديث عن إصلاح قطاع الكهرباء بعيدًا عن الشّق السياسي والتدخّلات اليوميّة فيه ضربًا من الخيال، فقانون تنظيم قطاع الكهرباء ٤٦٢/٢٠٠٢، عندما ينصّ على تعيين هيئة ناظمة للقطاع، هدف أصلًا إلى الحدّ من التدخّل السياسي وحصر القرار التقني بالهيئة، وهو شيء لم يتم في السنوات ال ١٩ السابقة لطالما كان يُنظر إلى قطاع الكهرباء كأداة للحفاظ على نظام الزبائنيّة من خلال توزيع الوظائف على المقرّبين من السياسيين وكبار موظّفي الإدارة العامّة، كما لتقاسم عقود الخدمة والتعاقد من الباطن. إنّ هذا الامتياز قد انتهى مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة، وبتنا بحاجة ماسّة لفصل المسار السياسي عن تأمين الكهرباء لذا، لا بد من إطلاق حوار وطني حول قطاع الكهرباء يصدر عنه قرار توافقيّ تاريخي بإبعاد السياسة عن القرارات المُرتبطة بالطاقة، وبفتح المجال أمام الشركات العالميّة للمنافسة تقنيًّا وماليًّا كما في البلدان الأخرى، على أن يترافق ذلك مع وضعٍ خطة، للعقد المقبل، تضع لبنان على سكّة التحوّل في مجال الطاقة. عدا عن ذلك، على اللبنانيين توقّع الأسوأ بعد انفجار ٤ آب/أغسطس المدمّر، صدر تقرير عن البنك الدولي تحت عنوان: «إصلاح وإعادة بناء قطاع الموانئ في لبنان: الدروس المستفادة من المُمارسات العالمية». في حال عدم أخذ زمام المبادرة سريعًا، ربما نكون أمام تقرير جديد للمؤسسات التمويليّة تحت عنوان “إعادة بناء قطاع الطاقة في لبنان” نفقد خلاله القدرة على فرض رؤيتنا للقطاع لأننا نكون بتنا بمواجهة الانهيار والعتمة L’Orient le Jour نُشرت هذه المقالة في صحيفة
مارك أيوب، باحث في شؤون الطاقة في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت إنّ الآراء الواردة في هذه المقالات تخصّ كاتبها حصرًا ولا تعكس رأي معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت Comments are closed.
|
Archives
July 2024
Categories |